معارف

مقدمات الكتب.. ما قاله محمد سلماوى فى حضرة نجيب محفوظ



نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب “فى حضرة نجيب” للكاتب الكبير محمد سلماوي، الذى كان أحد المقربين من أديب نوبل، فما الذى قاله سلماوى فى مقدمة كتابه:


تقديم: فى حضرة نجيب محفوظ


على مدى 12 عاما منذ تعرض أديبنا الأكبر نجيب محفوظ لمحاولة الاغتيال الآثمة فى أكتوبر عام 1994، والتى أعجزت يده اليمنى، وحتى وفاته فى أغسطس عام 2006، ظللت ألتقى به فى منزله بشكل منتظم كل يوم سبت فى تمام الساعة 6 مساء؛ لأجرى الحوار الأسبوعي الذى كان ينشر كل يوم خميس بجريدة “الأهرام”، والذى طلب محفوظ من رئاسة تحرير الجريدة أن أجريه معه بدلاً من مقاله الأسبوعى الذى لم يعد قادرا على كتابته.


ولقد كانت علاقتي بأديبنا الأكبر، والتى بدأت عند التحاقى بـ “الأهرام” عام 1971، معروفة فى مصر وفى الخارج، خاصة بعد أن شرفنى باختياره لى لأكون ممثله الشخصى فى احتفالات نوبل عام 1988، واختصني لألقى الخطاب الذى أعده لهذه المناسبة.


لذلك فكثيرا ما كنت أتلقى طلبات من بعض الشخصيات العربية والأجنبية لمقابلة أديب مصر الكبير، والذى أصبحت زيارته جزءا من برنامج زيارة كبار الضيوف للقاهرة؛ حيث كانوا يشاهدون الأهرامات وأبا الهول ويزورون نجيب محفوظ، وكان محفوظ يرتاح لقيامى بهذه المهمة نظرا لأنه لم يكن له سكرتارية خاصة، وقد كان أصدقاؤه يساعدونه فى هذه الأمور، وأذكر فى بداية الإعلان عن فوز محفوظ بجائزة نوبل حين بدأت الصحافة وأجهزة الإعلام العالمية تتوافد على مكتبه بـ «الأهرام» أن تطوع الناقد الأدبى فتحى العشرى للقيام بهذه المهمة.


في حضرة نجيب محفوظ


أما صبرى السيد المعروف لأصدقاء نجيب محفوظ باسم الحاج صبري فكان فى السنوات الأخيرة يأتى يوميا لمنزل الأستاذ؛ كى يقرأ له الصحف فى الصباح بعد أن أصبح ضعف بصره يحول دون قراءته لها بنفسه. وحين بلغ الحاج صبرى السن القانونية أبلغته شئون العاملين بـ «الأهرام» أنه سيحال للتقاعد، وقد تحدث إلى الأستاذ نجيب محفوظ فى هذا الأمر الذى فاتحت فيه إدارة الجريدة طالبا مد خدمة صبرى السيد أسوة بغيره، تقديرا لما يقوم به لأديبنا الأكبر الذى تتشرف الجريدة بانتمائه إليها، والتى لم تعين له سكرتارية طوال عمله بها رغم احتياجه الشديد لذلك خاصة بعد حصوله على نوبل 1988، لكن الإدارة لم تستجب وتمت إحالة الحاج صبرى إلى التقاعد؛ لذلك فقد أوكلت إليه بعض المهام التى يقوم بها لجريدة الأهرام إبدو التى كنت أرأس تحريرها تقديرا للمهمة التى كان يقوم بها لمحفوظ، والتى كنا نقدرها كل التقدير.


وهكذا ظل الحاج صبرى يقرأ الصحف كل صباح لنجيب محفوظ ويتولى بعض مراسلاته المحلية، بينما كنت أتولى مراسلاته الدولية ومقابلاته لكبار الشخصيات، ورغم سعادتى بأن أؤدى لأديبنا الأكبر هذا العمل البسيط فقد كان لا يترك مناسبة إلا ويبدى امتنانه لى لقيامى بتلك المهمة الثقيلة على حد قوله، والتى لم تكن كذلك على الإطلاق، فكونها لنجيب محفوظ كان يحولها إلى متعة حقيقية، وكان أصدقاء محفوظ المقربون يعرفون أنه كثيرًا ما كان يلقبنى مازحًا بـ وزير الخارجية، فإذا قال له أحدهم إن هناك سفيرًا أو صحفيا أجنبيا يريد مقابلته قال لهم: شوفوا مع وزير الخارجية!


على أن هذا الوضع كان يسبب لى حرجًا فى بعض الأحيان، فقد قلت له ذات مرة – على سبيل المثال : إن الأمير خالد الفيصل يرغب فى زيارته. لاستطلاع رأيه فى شأن مؤسسة للفكر العربى يريد إنشاءها، فقال لي: إبقى هاته معاك يوم السبت ! قلت: لكن الأمير لن يبقى فى مصر حتى يوم السبت، فقال: يعنى هيقابلنى مع الحرافيش ؟! فقد كان محفوظ يلتقى بقية أيام الأسبوع مع أصدقائه سواء ممن كان يطلق عليهم شلة الحرافيش أو غيرهم فى بقية أيام الأسبوع ببعض الأماكن العامة، أما يوم السبت فكان يبقى بالبيت لأنه كان اليوم المخصص للقائنا.


لقد كان جدول لقاءات محفوظ مرتبا بدقة مثل بقية حياته، فقد كان يلتقى مساء أيام الآحاد من كل أسبوع بمجموعة من الأصدقاء فى فندق شبرد تضم: الدكتور محمد الكفراوى وعلى سالم وإبراهيم عبد العزيز وغيرهم، أما جمال الغيطانى ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودى وشلتهم، فقد كان يلتقى بهم مساء الثلاثاء فى باخرة فرح بوت على نيل الجيزة، وكان يوم الجمعة مخصصا للقاء الذى كان يرتبه له الدكتور يحيى الرخاوى مع مجموعات من الشباب من مريديه، أما يوم الخميس فكان للقاء الحرافيش.


وكانت لقاءات محفوظ تتراوح ما بين المقطم وفندق سوفيتيل بالمعادى وفندق موفنبيك بالمطار، بالإضافة للجيزة ووسط البلد.


وهناك اعتقاد سائد بأن جميع أصدقاء محفوظ من الحرافيش، والحقيقة أن هذا غير صحيح فهو لم يكن يطلق هذا الاسم إلا على شلته القديمة التى ظل يلتقى بها حتى آخر أيامه مساء كل يوم خميس بمنزل المخرج السينمائى الكبير توفيق صالح، والتى كانت تضم عددًا كبيرًا ممن رحلوا عن عالمنا ولم يبق منهم إلا توفيق صالح أمد الله فى عمره، وكان من بينهم: عادل كامل وأحمد زكى مخلوف ومحمد عفيفى وأحمد مظهر وأمين الذهبي… وغيرهم، وقد عرفت شلة الحرافيش بعض الأعضاء العابرين مثل : صلاح جاهين وأحمد بهاء الدين ومصطفى محمود ولويس عوض، أما أحدثهم فكان الفنان جميل شفيق.


وقد أخبرنى محفوظ أن الفنان أحمد مظهر هو أول من أطلق هذه التسمية على شلتهم القديمة، وحين سألته عن معناها قال إن معناها لا يعرفه إلا من ينتمون لها فهو الهلافيت أو «المتشردين»، أما المجموعات الأخرى التى كان يلتقى بها بقية أيام الأسبوع فكانت كل مجموعة منها تختلف عن الأخرى، وبعضهم لم يكن من الممكن أن يلتقى بالبعض الآخر لما بينهم من اختلافات تصل فى بعض الأحيان إلى حد التنافر، لكن محفوظ كان حريصا عليهم جميعا، ولم أكن أحضر هذه اللقاءات بصفة منتظمة، فقد كان لى لقائى الخاص فى بيته مساء كل سبت لكنى فى المرات التى كنت أذهب فيها كنت ألاحظ أن محفوظ كان يتمم دائما على الحضور فيقول:


أمال فين جمال؟ أو هو الكفراوى مجاش ليه؟

والحقيقة أن العلامة الكبير الدكتور يحيى الرخاوى هو الذى دفع محفوظ للخروج يوميا ولقاء الأصدقاء؛ حيث كان يخشى بعد حادث الاعتداء أن ينغلق على نفسه مما كان سيكون له تأثير ضار على حالته النفسية والصحية، خاصل 2007 معه من له نظره، وكان الدكتور النفسية والصحية، خاصة وقد ضعف سمعه ووهن نظره، وكان الدكتور الرخاوى على حق، فقد ظل محفوظ حتى آخر أيامه يقظا يتابع ما يجرى من حوله، وكان يقول: إن أصدقائى هم عينى وأذني، فمن خلال الأصدقاء أرى ما يجرى فى البلاد وأسمع عما يحدث فى العالم.


وقد حدثنى ذات مرة السفير الفرنسى فى القاهرة باتريك لوكليرك عن أن فرنسا قررت منح محفوظ أعلى وسام فى مجال الآداب والفنون وهو برتبة قائد Commandeur، وقال: إن هذا الوسام عادة لا يمنح إلا على أرض فرنسية، فإما أن يسافر محفوظ إلى فرنسا أو أن يقلده السفير الوسام فى السفارة الفرنسية بالقاهرة، وقد أخبرت السفير أن محفوظ لا يهوى السفر خارج مصر، وأنه لم يذهب إلى السويد لتسلم جائزة نوبل نفسها، وسأعرض عليه استلام الوسام فى السفارة، ولكنى حين عرضت الأمر على الأستاذ قال لى رده المعتاد وهو أن أحضر السفير معى يوم السبت ليسلمه الوسام فى البيت.


وقد أخذ السفير يفكر مليا فى الموضوع بعد أن شرحت له الوضع بأكثر الطرق دبلوماسية حتى لا يتصور أن محفوظ لا يقدر تكريم الحكومة الفرنسية له، ثم قال: إن نجيب محفوظ شخصية استثنائية؛ لذا يجب أن نعمل له الاستثناء الواجب ونسلمه الوسام فى بيته.


وهكذا أحضرت معى السفير يوم السبت كما طلب محفوظ، وتمت فى منزله بالعجوزة مراسم تسليم أعلى الأوسمة الفرنسية.


وفى مرة أخرى كان رئيس وزراء إسبانيا خوسيه ماريا أثنار يرغب فى لقاء محفوظ أثناء زيارة رسمية له لمصر، فقلت لمحفوظ : لا تقل لي أحضره معك يوم السبت فقال محفوظ مندهشا : أمال حيقابلنى إمتى، إن مكنش يقدر ييجى معاك يوم السبت يبقى نعتذر له ؟


إن قائمة من أحضرتهم معى يوم السبت حسب طلب الأستاذ – رحمه الله – تضم بعض أكبر الشخصيات العربية والعالمية، ممن كانوا يتطلعون للقائه، فمن بينهم من يعتبر واحدا من أكبر الأدباء العالميين وهو البرازيلى باولو كويللو الذى ما إن دخل على نجيب محفوظ حتى انحنى على يده اليمنى وقبلها، وهى ذات اليد التى شلتها محاولة الاغتيال الفاشلة قائلاً: على أن أقبل هذه اليد التى كتبت لنا بعض أعظم روائع الأدب الإنسانى المعاصر، وكان من بينهم كاتبة جنوب إفريقيا العالمية نادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل، والتى دعوتها بتكليف من وزير الثقافة – آنذاك – الفنان فاروق حسنى لتكون ضيفة شرف معرض القاهرة الدولى للكتاب لما تجمعنى بها من صداقة، فاشترطت لقبول الدعوة أن أرتب لها لقاء مع نجيب محفوظ.


كما كان من بين من التقوا معى بمحفوظ فى منزله يوم السبت بعض أكبر الأسماء على الساحة العربية مثل : الدكتور أحمد زويل والأستاذ محمد حسنين هيكل وياسر عرفات والدكتور أحمد كمال أبو المجد… وغيرهم.


ويضم هذا الكتاب فى بابه الأول نص الحوارات التى دارت بين أديبنا الأكبر نجيب محفوظ وبعض زواره من كبار العقول فى العالم فى مختلف التخصصات من الأدباء والعلماء إلى المسئولين ورجال السياسة، والذين سعوا جميعا لكى يكونوا .. فى حضرة نجيب محفوظ.


أما الباب الثانى فيضم بعض ما كتبت عن نجيب محفوظ فى أكثر من مناسبة على مدى ما يزيد عن عقدين من الزمان، وقد جمعت هنا لأول مرة ما نشر منها وما لم ينشر، وهى تتعرض لبعض الجوانب من حياة أديبنا الأكبر وإنتاجه الأدبى وآرائه فى الثقافة والسياسة وغيرها، فتضع القارئ فى حضرة نجيب محفوظ، يجالسه ويتعرف عليه بشكل مباشر.


ثم يقدم الباب الثالث مجموعة من كلمات محفوظ نفسه، وفى مقدمتها حديث مستفيض عن قصته مع القراءة والكتابة، وهو حديث لم ينشر من قبل، ثم كلمات محفوظ فى افتتاح بعض المناسبات الدولية، ومنها بالطبع كلمته فى احتفالات نوبل عام 1988، وكلمته فى افتتاح معرض فرانكفورت الدولى للكتاب، والذى استضاف العالم العربى ضيف شرف دورته عام 2004، وغيرها من الكلمات التى سعى القائمون على هذه المحافل الدولية لأن يكون المشاركون فيها أيضًا فى حضرة نجيب محفوظ.


ثم يأتى فى نهاية الكتاب ملحق لصور الأديب الكبير كباب رابع، بعضها التقط فى المناسبات الواردة بالكتاب وبعضها فى مناسبات أخرى .


وقد اعتمدت فى أجزاء كثيرة من هذا الكتاب – خاصة تلك التى بها أحاديث محفوظ – على التسجيلات التى أحتفظ بها بصوته، والتى تزيد على الـ 500 ساعة، وإنى أنتهز هذه الفرصة لأشكر قسم الاستماع بجريدة «الأهرام» الذى قام بتفريغ التسجيلات التى استخدمتها فى الكتاب.


اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading