معارف

مقدمات الكتب.. ما قاله أوليفر ساكس في كتابه “عين العقل”




نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب “عين العقل” لـ أوليفر ساكس، والكتاب ليس له مقدمة، لكن له تمهيد، فما الذي جاء فيه؟


تمهيد:


كانت نشأتي في منزلٍ مليء بالأطبَّاء ويعجُّ بالأحاديث الطبية؛ فقد كان والدي وإخوتي الأكبر سنًّا مُمارسين عموميِّين، وكانت والدتي جرَّاحة، وكان قدرٌ كبير من الحديث الدائر حول طاولة العشاء يدور حتمًا حول الطب، لكن الحديث لم يكُن فقط عن “الحالات”. فالمريض يمكن أن يظهر باعتباره حالة لمرضٍ ما، ولكن في أحاديث والديَّ أصبحت الحالاتُ سِيرًا ذاتية، وقصصًا لحياة أشخاص وتفاعُلهم مع مرض أو إصابة، مع توتُّر أو فاجعة. ربما كان يجب أن أصبح أنا نفسي طبيبًا وقاصًّا.


عندما نُشر كتاب “الرجل الذي حسب زوجتَه قُبَّعة” في عام ١٩٨٥، حظِي بمراجعةٍ رائعة للغاية من قِبل طبيب أعصاب أكاديمي بارز، فقد كتب أن الحالاتِ كانت مُدهشة، لكن كان لديه تحفظٌ واحد؛ فقد اعتقد أنني كنت مُخادعًا في تقديم المرضى كما لو كنت قد أتيت إليهم دون أفكار مسبقة، مع القليل من المعرفة بحالاتهم. هل كنت حقًّا أُطالع المؤلَّفات العِلمية بكثرة فقط بعد رؤية مريض يُعاني حالةً معيَّنة؟ لا شك أنه اعتقد أنني كنت أبدأ بوضع موضوع أو فكرة في علم الأعصاب نُصب عيني، ثم أسعى ببساطة للبحث عن مرضى يُمثلونه.


لكنني لست طبيب أعصاب أكاديميًّا، والحقيقة هي أن معظم الأطبَّاء المُمارسين، بصرف النظر عن ثقافتهم الطبية الواسعة، لا يملكون إلا النَّزر اليسير من المعرفة المُتعمقة بالعديد من الحالات، لا سيَّما تلك التي تُعتبر نادرة؛ ومن ثَم لا تستحقُّ إهدار الكثير من الوقت في دراستها في كليات الطب.

عندما يُقدِّم المريض نفسه كمُصاب بواحدة من تلك الحالات، ينبغي أن نُجريَ بعض الأبحاث، وأن نرجع بصورةٍ خاصة إلى التوصيفات الأصلية، ومن ثَم عادةً ما تبدأ قصص حالاتي بلقاء، أو برسالة، أو بطَرق على الباب؛ فوصف المرضى لتَجارِبهم هو ما يحفز الاستكشاف الأعمَّ للحالات.


وبصفتي طبيبَ أعصاب عامًّا يعمل في أغلب الأوقات في دُور المسنِّين، رأيت آلاف المرضى على مدار العقود الماضية. وقد تعلَّمت شيئًا منهم جميعًا، وأستمتع برؤيتهم، بل في بعض الحالات كان يرى بعضنا الآخر بانتظام، كطبيب ومريض، على مدى عشرين سنةً أو أكثر. في ملاحظاتي السريرية أبذل قُصارى جهدي لتسجيل ما يحدُث معهم، وفي التفكير بعناية في تجارِبهم. ومن حين لآخر، وبإذن من المريض، تتطوَّر ملاحظاتي إلى مقالات.


بعد أن بدأتُ في نشر قصص الحالات، بدايةً من كتاب “الصداع النصفي” في عام ١٩٧٠، بدأت في تلقِّي رسائل من أشخاصٍ يسعَون إلى فَهم تجاربهم العصابية الخاصة أو التعليق عليها، وأصبحَت مِثل هذه المراسلات، بطريقةٍ ما، امتدادًا لممارستي.

ومن ثَم فإن بعض الأشخاص الواردِ ذِكرُهم في هذا الكتاب هم من المرضى، والبعض الآخر أشخاصٌ كتبوا لي بعد قراءة إحدى قصص حالاتي.

أنا ممتنٌّ لهم جميعًا لموافقتهم على مشاركة تجارِبهم؛ لأن مِثل هذه التجارِب تعمل على توسيع الخيال، وتُبين لنا ما يكون في الغالب مُستترًا حين نكون متنعِّمين بالصحة، كالعمليات المعقَّدة للدماغ وقدرته المُذهلة على التكيُّف والتغلُّب على الإعاقة، فضلًا عن الشجاعة والقوة التي يمكن للأفراد إظهارها، والموارد الداخلية التي يُمكنهم أن يُسهموا بها، في مواجهة التحدِّيات العصبية التي يكاد يستحيل على بقيَّتنا تخيُّلها.




 


اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading