مقدمات الكتب.. ما قالته كاثى كوفمان فى كتابها “الطبخ فى الحضارات القديمة”
نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب “الطبخ في الحضارات القديمة” لـ كاثي . ك . كوفمان، فما الذى تقوله فى المقدمة؟
المقدمة
الإنسان هو الحيوان الطباخ. وما من مخلوق آخر سواه يعرّض طعامه للتسخين ليغير مذاقه قبل أكله. وما من مخلوق سواه طور كل هذا القدر من الأنظمة المعقدة والعادات للحصول على المواد الغذائية وتحضيرها وتوزيعها واستهلاكها.
كانت طرق الأكل الأولى عند الإنسان بسيطة فرجال العصر الحجري القديم ونساؤه كانوا يحصلون على طعامهم باصطياد قطعان الحيوانات الكبيرة التي كانت تغطي الشرق الأدنى ومنطقة البحر الأبيض المتوسط وبجمع ما يتيسر من فواكه وخضر برية وحبوب يصادفونها على امتداد طريقهم لزيادة أطعمة اللحوم.
ولا نكاد نعرف شيئاً عن الكيفية التي كان يحضر بها هؤلاء البدائيون الأوائل طعامهم، ولكن مع نقطة معينة في الزمن من النار أو في الرماد الذي تخلفه النار. أما الغلي فوسيلة أكثر تعقيداً من الناحية التقنية: لأنه يتطلب وجود طريقة لتسخين السوائل في حاويات تحفظ الماء، والمعتقد أنها أنجزت بغمر أحجار تسخن بالنار في حفر أرضية مصفوفة بالأحجار، وحين ظهر هذا المطبخ البدائي، صار يظهر أيضاً لدى الناس ميل للمفاضلة بين الأطعمة البرية الكثيرة المتوافرة.
قبل ما يقرب من مليون إلى خمسمائة ألف سنة، تعلم الإنسان الأول كيف يستخدم النار لتحويل النيء إلى مطبوخ. ويفترض الأنثروبولوجيون أن الصورة الأولى من الطبخ كانت تحميصاً وشَياً فوق نيران مفتوحة، يكملها بسرعة الخبز على أحجار ساخنة توضع بالقرب لإشباع حاجتهم من الجوع.
قبل زهاء اثني عشر ألف سنة، انتهى العصر الجليدي الحديث، وغير البنية في مناخ الشمال وحول الحياة النباتية والحيوانية التي كانت تتوافر في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط ما قبل التاريخ. أما كيف ولماذا بالضبط ظهرت الزراعة – أي استزراع المحاصيل وتدجين الحيوانات فأمر غير واضح، لأن الدليل يتنوع من موقع إلى آخر.
وتذهب إحدى النظريات إلى أن الطرائد البرية تناقصت مما دعا الصيادين جامعي الأطعمة إلى أن يعتمدوا أكثر على الحبوب لاستمرار بقائهم. وقد فضَّلوا بعض الحبوب البرية إما بسبب تيسرها أو سهولة الحصول عليها أو مذاقها.
ونشر هؤلاء البدائيون هذه الحبوب المفضلة حين كانوا يواصلون مطارداتهم للقطعان المتناقصة، فأكملوا طراز حياة الصيد بالمحاصيل المزروعة.
وبحلول عام 9000 ق . م، صار الدليل يتوافر على محاصيد تم خزنها للاستهلاك في المستقبل. وكانت هذه المخازن والمستودعات بحاجة إلى أن تحمى من تطفل الحيوان وسرقة الإنسان. فتشكلت القرى حولها، وحوّلت البدائيين إلى مزارعين مستقرين.
من سيئات الزراعة أنها تستغرق وقتاً طويلاً جداً. ويرى الأنثروبولوجيون، باستعمالهم المجتمعات البدائية المعاصرة نموذجاً، أن مجتمعات الصيادين جامعي الأطعمة لم تكن تقضي سوى ثلاث ساعات يومياً للحصول على الطعام، في حين تتطلب الزراعة عملاً مكثفاً أكبر بكثير. على أن من حسنات الزراعة أن الحصاد الجيد يخلق فوائض أطعمة ويحرر بعض أعضاء الجماعة من حاجة الحصول على الطعام. وحين تفلح السيطرة على تجهيزات الطعام ويتم تنظيمها، ينشغل بعض الأفراد في مهام أخرى متخصصة، مما يسمح بنمو القرى إلى بلدات ومدن، وبالتالي إلى حضارات. في مثل هذه الفعالية يوفر واحد الطعام للآخرين. وتطوّر أكثر المجتمعات الناجحة طاقماً من العمال المهرة الذين يستطيعون تحضير الطعام بطرق معقدة ومتخصصة ثقافياً تصبح المطبخ الراقي». وهناك أساليب أخرى أبسط لتحضير الطعام داخل المجتمع، بالرغم من أنها تصبح أيضاً جزءاً من مطبخ ذلك المجتمع.
يتناول كتاب الطبخ الذي بين يدي القارئ بلاد الرافدين القديمة ومصر واليونان وروما من خلال الوصفات الغذائية التي توضح ما كان يتناوله المجتمع من الحكام الكبار حتى أدنى المزارعين مكانة أو العبيد قبل آلاف السنين. وهذه الوصفات مثيرة في ذاتها كخصائص مطبخية، لكن الأهم أنها تساعد في الكشف عن بنية أية حضارة وتقنيتها واقتصادها وممارساتها التجارية والمعتقدات الفلسفية والدينية والتنظيم الاجتماعي والسياسي فيها.
خذ مثلاً الخبز المصنوع من الحنطة، وهو شيء بحكم البديهة حالياً ويتوافر واقعياً في كل مكان ويمكن تقديمه لأي شخص تقريباً. في العالم القديم، كان خبز الحنطة قطعة تدل على الترف؛ فالأنواع المبكرة من الحنطة لم تكن تنمو نمواً صالحاً في جميع المناخات فكان دقيق الحنطة في الغالب أغلى ثمناً من الدقيق المصنوع من حبوب أخرى. في القرن الثاني الميلادي، حين أنزل الجنود الرومان عند بئر هادريان بالقرب من حدود إنجلترا مع اسكوتلندا، أصروا على الحنطة لإشباع مطلبهم في أنماط الخبز المألوفة لديهم في إيطاليا. ربما كانت الحبوب المحلية مثل الشوفان تكفي لسد حاجة بطون الكتائب التي تتضور جوعاً. مع ذلك، تم شحن الحنطة حتى نهايات العالم المعروف حينئذ لإطعام الجنود، الذين دفعوا مسرورين ثمن الحبوب الغالية من رواتبهم السخية، إذ كان ينظر الرومان القدماء إلى خبز الحنطة بوصفه أمراً جوهرياً لتحقيق هويتهم الثقافية. وكثير من الأطعمة التي ستمر في مختلف الفصول متشابهة لأن مناخات البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى كانت تدعم كثيراً من الممارسات الزراعية المتشابهة، فكانت نباتاتها وحيواناتها متشابهة. زد على ذلك أن هذه المناطق، منذ الأزمنة المبكرة، كانت تتاجر بمواد الأطعمة، ولذلك انتشرت تلك النباتات والحيوانات وطرق تنميتها وزيادتها من مناطقها الأصلية إلى البيئات الجديدة. مع ذلك كانت لكل حضارة مزاياها الفريدة التي تنبع من التنوعات في أنظمتها البيئية وتقنياتها وعاداتها التجارية وأديانها وفلسفاتها. ويجري التعبير عن هذه التنوعات في الاختلافات الطفيفة في طرق تناول الطعام في كل حضارة.
غلاف كتاب الطبخ في الحضارات اقديمة
اكتشاف المزيد من موقع المعارف
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.