خالد دومة يكتب: إسقاط – اليوم السابع
كان وجهها مصفرا، فى الثانية والعشرين من عمرها، وتبدو كأنها عجوز، تنحنى وتحمل كيس الجلكوز بين يديها الصغيرتين، كانت نظرتها تمتلأ ألما عظيما، لم تكن الزيارة مسموح بها، ولكن المال يفتح الأبواب المغلقة، كان بيننا حارس الأمن، اتكأت على كرسى، وهى تحدثنى، قرأت على صفحة وجهها الطفولى، ذلك البركان التى تحمله فى أحشائها الصغيرة، كانت حاملا فى الشهر الرابع، وقد توفى الجنين فى بطنها، منذ أيام، شق الألم بطنها نصفين، تتنفس جحيم، ممتزج بضيق رهيب.
كانت الخطوات التى مشتها كأنها تحمل صخور الأرض، قدميها سلستها أحجار الألم، فهى تخطو بصعوبة بالغة، كانت اللحظات دهور، تستشعرها، قالت فى صوت ضعيف، وعينيها تترجانى أبى أخرجنى من هنا، أريد الذهاب، قلت لها وقد تسربت أطنان من ألمها إلى نفسى وقلبى إلى أين؟ أن الألم داخل جسدك، وليس فى عنبر المستشفى، تحملى قليلا حتى ننتهى منه، كانت عينيها تنظر إلى الأرض فى أسف شديد، تتسآل، هل باعنى أبي؟ هل يريضيه ما أنا فيه من كرب شديد؟ لعلها قالت ذلك فى برهة من ضيقها المتواصل، كانت الابتسامة التى أحاول أن أخفف عنها بها ذابلة، وعيناى حائرتان فى مصابها وألمها الشديد، لحمها ودمها جزء صغير منها، كيس لا يتعدى الجرامات، كان أملا معقودا، ابتهجت له أيام، فإذا هو سراب، وموضع ألم منقطع النظير، يربك جسدها كله، كأنما هى على حافة بركان أنفجر، حين يخرج الأمل بجهد جهيد، تتفكك وتتعثر فى خطاها الوليدة ثمانية وأربعون ساعة والروح تقف فى الحلقوم والنار تشتعل فى أحشائها، لا تبرد لحظة واحدة، لا تستطيع أن تقف أو تمشى أو تنام، فوارن فى كل عصب من أعصابها، تشهق وقد أقترب الموت منها، وتتساءل فيما بينها وبين نفسها، أتكون النهاية، ألا يخرج إلا معلق بروحى، سمعتها تبكى بلا انقطاع، كلما رفعت الهاتف محاولا أن أبث فيها الأمل، وأن الأمر هان، ولم يعد إلا القليل، لكن صوتها وبكائها يطلق رصاصته فى القلب، وسهامه تنفذ، لتجعلنى أشلاء، ألملم نفسى سريعا وأصمد، وأحادثها بصوت أجش قوى، ولكن صوت الهاتف يضعضعنى بخفوت، صوت امرأة عجوز، انهكها الدهر والمرض.
فى مساء الليلة الأولى طاف عقلى حول ما تعانيه، هى على سريرها، وأنا جالس هنا فى هدوء أحتسى كوب من القهوة، كى أفيق ولا يغلبنى النوم، فأنا أعلم أننى لن أنام وربما لو حاولت، هاجمتنى الكوابيس، لتنغص على منامى، أن ألمها يخترق الجدران ليأتينى، هى فى الدور الرابع، وأنا فى قاعة الاستقبال أنتظر، إنها ليست قاعة، إنما هى خارج المستشفى، يبيت فيها أهل المرضى، دكك كما يقولون، وعليك أن تنام، إذا أردت جالسا، كانت الأمهات يفترشن الأرض ويتمددن، يسرقن لحظات من النوم، يخفف من تعبهن، كل واحدة تحاول أن تهرب من ألم ابنتها، وهى تضع مولدها، هى تعلم بالخبرة كم تعانى ابنتها هناك فلا تستطيع النوم، أو الراحة، اشتريت الجريدة، وأخذت أتصفحها أحاول أن أطرد الأفكار السيئة، وذلك الألم من مخيلتى، كان النوم يداعب جفونى، وكلما ههممت به امتلكتنى صورة صغيرتى، وهى تعانى ألمها بمفردها، بالقرب منى، وأنا عاجز عن أن أحمل عنها، ولو جزء صغير، أو أبدد خوفها، هى الآن تعد الثوانى، التى لا تنتهى، وأنا هنا أيضا، وكلانا فى هم شنيع، مرت كأعوام ثقيلة، فالزمن لم يتغير، تمر اللحظات على بعض الناس دون أن يشعروا بها، يحاولوا أن يستوقفوها، ولكن لا تنصت لأحد وتمر على أخرين، كأنها جبال ضخمة بأثقالها، يسترحمونها أن تمر، أن تسرع، أن تمضى، إذا بها أكثر ثقلا وتراخيا، لا تصغى لبكاء، ولا لآذان أحد، هو هو الزمن، فى مساء اليوم الثانى سقط من أحشائها ذلك الألم العنيف، لتنفرج الحياة قليلا.
ولحظات ثم دقائق وتعود الحياة إلى سابق عهدها، بعد أن أعطتنا درسا فى الألم والشقاء، درسا فى معنى البنوة، حين تتكئ على ظهر الآباء، فيكون حائطا صخريا، ويقف شامخ أمام الرياح، ولكن قدر ما يستطيع، فهناك أشياء نقف أمامها جميعا ضعفاء، لا حيلة لنا من الأمر أعطتها الحياة درسا، وأعطتنى درسا، أملتها درسا قاسيا فى الأمل والألم، وأملتنى درسا قاسيا فى ألم الشعور، الإحساس حين يحترق بألم الأبناء الصغار منهم والكبار، ما غرسه الله فينا، كى تستمر الحياة، بين الألمين، بين النقطتين، الحياة والموت، كيف هى الأمومة، التى تسلك إليها كل امرأة، درب من الأشواك والمعاناة، ما تبذله، إنها تحرس فى أرض الشقاء، كى تسمع صوت طفلها، يخرج من أحشائها، وتقف حارسة عليه، ليلا ونهارا تقيم أوده من صدرها، تنبته لحظة بعد لحظة، وتذب عنه كل الأعاصير وتقف فى وجه الأخطار، كى ينمو من لحمها ودمها، تتجرع غصص من الهلاك، كى يظل يتنفس، ويصبح رجلا.
عادت إليها الحياة، بعد أن غابت فى ظل الألم، يومين متتاليين، رأيتها، وقد دبت الدماء فى وجهها، وأخذ يعود إلى لونه الطبيعى، بعد أن أضمحل من فرط العياء، ابتسمت حين رأتنى وابتسمت لها فما أعظم أن تكون أبا صلبا، أمام كل خطر، جدير بكل امرأة أن ترفض، أن تكرر معاناتها وألمها، ولكنها تنتمى إلى الحياة والطبيعة، وتأمل فى أن يهب الله حملا أخر، رغم كل هذا التعب، قبلت صغيرتى ثم عدنا إلى البيت بفيض من دروس الحياة.
اكتشاف المزيد من موقع المعارف
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.