معارف

أساطير شرقية.. هل سمعت عن سميراميس البابلية




تمثل الأساطير جانبا مهما من تاريخ الشرق، لكن لا تحظى كل الأساطير بشهرة واحدة، فمنها ما صار علامة معروفة، ومنها ما نجده في الكتب فقط، ومن الأساطير التي أقرأ عنها للمرة الأولي هي أسطورة سميراميس البابلية، والتي يقول عنها كتاب “أساطير شرقية” لـ كرم البستناني:


سميراميس البابلية


يتدفق من أعالي جبال أرمينية نهران كبيران: دجلة والفرات. وبعد أن يسير كل منهما، على مسافة، في وجهة غير وجهة الآخر، يتدانيان ويجريان متوازيين نحو الجنوب، ثم تختلط مياههما في مجرى واحد يسمى شط العرب، ويصبان منه في خليج فارس، والوادي الذي ينبسط بين هذين النهرين، بعد تركهما منطقة الجبال، يسمى ما بين النهرين، نشأت فيه مملكتان عظيمتان: آشور وكلدة، ازدهرتا زمنًا، أقدمهما بل أقدم مدينة في آسيا هي مدنية كلدة.


وكان الآشوريون ينزلون من هذا الوادي في شماله على ضفة دجلة الشرقية وعاصمتهم نينوى، وينزل الكلدانيون قدماء البابليين في جنوبه وعاصمتهم بابل قائمة على ضفتي الفرات يشطرها هذا النهر شطرين، ولم يكن بد من خضوع إحدى هاتين المملكتين للأخرى، فكانتا تتداولان السيادة، فتسيطر حينًا نينوى على بابل وحينًا بابل على نينوى.


وكان نهر الفرات يهدد المنطقة الجنوبية من الوادي بفيضانه المتوالي في كل سنة، فأنشأ أهلها قنوات وخنادق يحولون إليها ما يفيض من الماء عن مجرى النهر تحاميًا للطوفان وريًّا لأراضيهم.


واتفق في إحدى السنين أن نزلت أمطار غزيرة في زمن ذوبان الثلوج على جبال أرمينية، ففاض الفرات وتدفقت مياهه فخرجت الأسماك منه إلى الأرض اليابسة، وكان بينها سمكتان كبيرتان رأتا بيضة كبيرة على وجه الغمر فسبحتا إليها ودفعتاها أمامهما إلى الضفة، وإذا بحمامة بيضاء تهبط من السماء وتحتضن البيضة إلى أن تراجع ماء الفرات إلى مجراه، فنقفت البيضة وخرجت منها الإلهة ديركيتو بوجه امرأة وجسم سمكة، إلهة السريان التي اشتُهرت بعدلها وفضلها وحكمتها، حتى أن جوبيتر أُعجب بها فوعدها بأن يمنحها كل ما تطلبه منه، فسألته أن يخلِّد السمكتين اللتين أنقذتاها من الطوفان فجعلهما في برج الحوت نجمتين وضَّاءتين، وهذا ما جعل السريان عبَّاد ديركيتو يحترمون الحمام ولا يأكلون السمك.


وحبلت ديركيتو، والإلهات يحبلن ساعة يشأن بزواج وغير زواج، ولما تمت أَشهُرها وضعت إنسية ينبعث النور من بدنها لجمالها الباهر، فبهتت ديركيتو أمامها، وذعرت لأنها ولدت ولدًا ليس في شكلها، وخافت أن تعيِّرها بنات جنسها ويتهمنها بما هي منه براء. فحملتها في ليلة مظلمة إلى البادية وتركتها هنالك على الأرض في قفر بلقع تسوطه الرياح من جهاته الأربع يقرس فيه البرد ليلًا ويستحرُّ الحرُّ نهارًا، فلبثت تلك الطفلة المسكينة عارية مهملة بين أيدي العناصر الطبيعية.


ولكن بيلوس إله نينوى الأعظم كان يعلم، من قبل، موعد مجيء هذه الطفلة إلى العالم الأرضي، ويعرف ما سوف يكون لها من شأن. وربما كانت بنته تزوج أمها ولم يعلم بذلك أحد، وعلمه بها جعله يرسل الإله ينبو رسوله رقيبًا على ديركيتو حتى إذا ولدت طفلتها وألقتها في البادية أرسل إليها ينبو سربًا من الحمائم هداهن ببكائها إلى مكانها، فطفق بعضهن يرفُّ عليها بأجنحته ليردَّ عنها الحرَّ نهارًا ويدفئها ليلًا، وكانت الحمائم الأخريات ينطلقن إلى حيث ينزل رعيان البدو، فيحملن إليها بمناقيرهن نقطًا من الحليب يزققنها بها ليغذينها، وحينما بلغت السن التي تحتاج فيها إلى غذاء أقوى أخذت الحمائم يردن الأمكنة التي يضع فيها الرعيان ما يصنعونه من الجبن، فيأخذن منه مقدار ما يسع منقار كل منهن، وكان الرعيان إذا عادوا مساء يرون جبنهم منقورًا فدهشوا، وتركوا منهم في الغد من يرقبه في غيابهم، فرأى الرقيب الحمائم وما يفعلنه فأخبر رفاقه، فتتبعوا الحمائم حتى وصلوا إلى حيث الصبية، فرأوها رائعة الجمال، فحملوها معهم إلى خيامهم، وقرَّ رأيهم على بيعها في نينوى.


وكان للآشوريين موسم يقيمونه في كل سنة لتزويج بناتهم، موسم يتقاطر فيه الشبان والشابات من كل نواحي المملكة، ومن جميع طبقات الشعب إلى العاصمة الآشورية، فتعرض هناك الشابات في ساحة واسعة، ويجتمع الشبان لينتقي كل منهم زوجة، أو ينتقي صبية يحملها إلى داره فيربِّيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها.


وكان الشبان الأغنياء يتقدمون أولًا، ويتزايدون في أثمان الحسان، فتكون الحسناء عِرْسًا لمن ترسو عليه الزيادة الأخيرة، ولا تدفع أثمان الجميلات إليهن ولا إلى أهلهن، وإنما تعطى بائنات للشابات القبيحات فيحملنها إلى متوسطي الحال والفقراء، فهؤلاء لم يكن يهمهم الجمال، وإنما كان يهمهم ما تحمله الزوجة من المال، ولا تسلم بنت إلى شاب إلا على ضمان تزوجه بها.


حمل الرعاة الصبية الحسناء إلى نينوى، وكانوا قد سموها سميراميس أي حمامة لرؤيتهم الحمائم يغذينها. ووافق وصولهم إلى المدينة يوم موسم الزواج وقد غصَّت ساحة عرض الحسان بالشيوخ والكهول والشبان، كل يطلب حسناء جميلة تملأ بيته حبًّا وحياة، فشاء الرعاة أن يخترقوا الجماهير ليُدخِلوا سميراميس إلى الساحة فلم يستطيعوا. وفيما كانوا يحاولون ذلك شاهدهم «سيما» ناظر مرابط خيول الملك، وشاهد الصبية الصبيحة الوجه المتلألئة الجمال. وكان سيما عقيمًا لا أولاد له فهفا قلبه إلى سميراميس، وشاء أن يتبناها، فدعا إليه الرعاة وساومهم على ثمنها، وحملها إلى منزله وسلمها إلى زوجته، فكانت هذه تحبها وتعتني بها كأنها بنت أحشائها حتى ترعرعت وتفتقت أزهار محاسنها، وبرزت معاني جمالها.


وفي أحد الأيام جاء منيوتس كبير قواد الملك نينوس، ملك نينوى، إلى مرابط الخيول ليتفقد خيول الملك، فشاهد سميراميس قاعدة قربها، فوقف ينظر إليها معجبًا ببهائها والنور المنبعث من وجهها، فرنت إليه سميراميس بمقلتَين فاترتَي النظر يترقرق السحر فيهما، فاستطير عقله ولم يتمالك أن دعا إليه سيما وسأله عنها، فأخبره سيما خبرها، فطلبها القائد زوجة له وأغلى مهرها. ثم حملها إلى قصره وسلَّمها إلى المزيِّنات والمواشط ليتواصين بها، وأخرج لها من خزائنه من حلي وجواهر ما لا يوجد مثله إلا في كنوز الملوك. فأخذتها النساء إلى الحمام وغسلن بدنها بالماء المعطر ومشَّطن شعرها الأسود الطويل، وسدلنه على كتفَيها خصلًا معقدة بالجواهر، ثم ألبسنها الأرجوان الفينيقي الموشَّى بالذهب والمحلَّى بالجوهر، وأخرجنها للقائد عروس الجمال والفتون والأناقة.


وكان منيوتس قد أمر بتهيئة أداة العرس فتزوجها، وجعل لها المقام الأسمى بين نسائه وحظيَّاته، وكان يلازمها ملازمة ظلها لها ولا يطيق البعاد عنها، فكانت تزيد فتونه بها بدَلِّها الخَفَر وتسبيه بذكائها وعذوبة منطقها.


ذهب القائد ذات يوم مع الملك إلى حرب رجع منها الملك مظفَّرًا، فخرج أهل المدينة للقائه، وبرزت النساء يعزفن بالمعازف ويزغردن فرحًا، وحملت سميراميس نفسها على محفَّة يرفعها أربعة من العبيد السود وتسايرها فيها وصيفتان صبيحتا الوجه ناعمتا البَشَر، هذه راكعة وراءها تروِّح لها لترد عنها لذعات الشمس، وتلك ساجدة أمامها تلبِّي رغباتها.


وكان الملك على مركبته الذهبية تجرها جياد الخيل، يخفق فوق رأسه العلم الآشوري، ويسير إلى جانبه على فرسٍ القائد منيوتس، وتحيط بهما كوكبة من القوَّاد، فحانت من الملك التفاتة فوقعت عينه على سميراميس في محفتها، وكانت في اتكاءتها على المساند الحريرية، والتفاتتها، وزينتها، وتألق طلعتها، أغرى ما تكون امرأة وأسلبها للعقول، فعلقت عينا الملك عليها، وأحست به فرنت إليه في دلال وفتور، فأصابت مقلتاها مكان الشَّغَاف من قلبه، فالتفت إلى القائد منيوتس وسأله: من تكون هذه المرأة؟ فشعر منيوتس بدنوِّ الكارثة، وأدرك أن سميراميس حلت في عينَي الملك، فصمت على ألم متظاهرًا بأنه لم يسمع، فكرر الملك السؤال فلم يرَ القائد مناصًا من الجواب؛ لأن الملك متى أراد شيئًا لا يمكن أحدًا مخالفته، والويل لمن يخالفه، فأجاب: هذه زوجتي يا مولاي.


دخل الملك قصره وتفرَّق الجند والناس، فأرسل إلى منيوتس يقول له: إن سميراميس حلت في عينَي الملك فهو يريد أن يراها في قصره بين محظياته، فصعق القائد ولبث حائرًا لا يدري ما يفعل، ورأت سميراميس حاله فأشارت عليه أن يلبي رغبة الملك وهي تسعى في البلاط بما أوتيت من فطنة ودهاء لعلها تقنع الملك بإرجاعها إليه، فنزل القائد عند إشارتها حزينًا يائسًا، ولما أبصرها خارجة من القصر في محفَّتها تشع كالكوكب اسودَّت الدنيا في عينيه وضاع عقله، فاستلَّ سيفه واتكأ بصدره على رأسه فخرج من ظهره، وسقط يتشحَّط بدمائه.


وما تراه يهمُّ سميراميس إذا قيل لها إن زوجها انتحر يأسًا؟ فهي لم تكن تحبه ولا تحب أحدًا سواه، وإنما كانت امرأة شهوانية نهمة للملذات والسيطرة، فسارت إلى بلاط الملك، ونزلت في مقصورة فخمة أُعدَّت لها، وجعلها الملك أولى حظاياه. ولم يطل الزمان حتى صارت بحذقها، وبضروب إغرائها، نافذة الأمر عنده، حتى إنه لولوعه بها كان يحملها معه في حروبه، وقد مكنته مرة بحسن إرشادها وشجاعتها من الاستيلاء على مدينة كان يحاصرها، فعظمت في عينيه وتزوجها فكانت أعزَّ نسائه على قلبه. وولدت سميراميس للملك ولدًا سمَّاه نينياس، نشأ نشأة حربية شأن أبناء الآشوريين كلهم.


وكانت الثورات في البلدان التي تحت السيطرة الآشورية متوالية؛ لأن الشعب الآشوري كان شعبًا خشنًا يعبد القوة ويحتقر الضعف ويقسو على المغلوب، وكان نيره أثقل نير وأضيقه؛ لأن حكومته كانت عسكرية لا تحسن إدارة البلدان التي تخضعها بغير التنكيل والإرهاب. فكانت سميراميس ترافق زوجها الملك لقمع الثورات والفتن، ولم تكن لتتنازل عن أناقتها، وكيف يمكنها الذهاب إلى الحرب في ثيابها الفضفاضة؟ فابتدعت ثوبًا أنيقًا يمكنها معه أن تقضي سائر حاجات الحياة، وأن تركب الخيول وتحارب دون أقل ارتباك، فانتشر زي هذا الثوب بين نساء سائر الشعوب التي خضعت لسلطان سميراميس.


وصحبت سميراميس مرة الملك نينوس إلى بلاد الطورانيين الثائرين عليه، وبعد أن ظفرا بهم وفتحا مدينتهم انتقم نينوس منهم انتقامًا وحشيًّا، فسلخ جلود كثيرين منهم وهم أحياء، وعلق جلودهم على جدران بناها أمام أبواب المدينة، ثم قطع رءوسهم ونظمها في حبل على شكل عقد، وحكم على من أبقاه حيًّا من الرجال أن يأكلوا لحوم أبنائهم وبناتهم، ومن أبى قطع أنفه وأذنَيه وشفتَيه، ثم انتزع آلهة المدينة وكنوزها وعاد إلى عاصمته.


رأت سميراميس هذه الفظائع فلم تقبلها نفسها وكرهت زوجها، وسميراميس لم تكن آشورية الأصل لتكون فيها الروح الآشورية الفظة، وإنما هي بنت إلهة فاضلة عادلة حكيمة، وقد ربَّتها الحمائم الوديعة، وكانت منذ زمن تصبو إلى السيطرة وحدها؛ لأن نفسها كانت تأبى أن تكون الثانية في المملكة، وأن تظل مغلولة اليدين أمرها مردود إلى أمر زوجها، فعزمت على أن تتخلص منه ليخلو لها الجو فتفعل ما تشاء.


وكان نينوس لشغفه بها ورؤيته ما هي عليه من شجاعة وذكاء قد أشركها في إدارة بعض شئون المملكة، وذات مساء بينما كان جالسًا في مقصورتها يتحبب إليها وتملكه بدلالها وشتى حيلها، شعرت بأنها قد استعبدته، فطلبت منه أن يسلمها سلطته كلها دقيقة واحدة، فأجاب طِلْبتها وعهد إليها بالسلطة المطلقة، فما كان منها إلا أن أمرت بالقبض عليه وقتلته وملكت مكانه، ولما علم الشعب بما فعلته هاج وتألب، جماهير تزاحفت إلى القصر تريد الفتك بها والثأر بالملك، وجاء سميراميس النبأ وهي تستحم فلم تذعر ولم ترتعد، وإنما خرجت من حمامها نصف عارية، وشعرها منفوش، وغدائرها تنوس على كتفيها، وأطلت من شرفة القصر، فلما رأوها شُدهوا فصمت ضجيجهم وسجدوا لجمالها سجدة رجل واحد، ثم تفرقوا وهي عندهم في مقام إلهة.


وانصرفت سميراميس بعد أن توطد ملكها على عبادة الشعب لها إلى الشئون العمرانية، فبنت على ضفتَي الفرات مدينة بابل أجمل مدينة في الشرق، بل في العالم كله وأشهرها، وسوَّرتها بسور عريض تسير مركبتان معًا على سطح جداره، وشيَّدت صرحًا لها زيَّنته بأجمل ما وصل إليه الفن الشرقي من النقوش والتخريم والترصيع، وأنشأت الحدائق المعلقة التي عُدَّت بين عجائب الدنيا السبع، وهي كناية عن جنائن جعلتها على أبراج مرتفعة ارتفاعًا شاهقًا، ورفعت إليها ماء الفرات بأنابيب تدفعه فيها مدافع آية في الصنعة والإحكام، وجعلت مدينتها مركز تجارة آسيا تلتقي فيها الطرق التي تنبعث إلى بلاد العرب ومصر والهند وأرمينية وآسيا الوسطى، وأنشأت مناسج اشتُهرت بنسيجها البابلي في ألوانه الزاهية، على تطريز صور، ورسوم أزهار ونجوم وحيوانات خرافية، وبنت للإله بيلوس هيكلًا ضخمًا فيه ثلاثة تماثيل من ذهب، وأقامت في فنائه برجًا عاليًا يناطح السحاب، ومدت جسرًا على الفرات يصل شطري المدينة أحدهما بالآخر، وانتزعت من مياهه ترعًا وجداول جرَّت منها المياه إلى الأبنية والجنائن والبساتين، وشقت بحيرة تتسرب إليها مياه النهر الطاغية، فلا تتدافع إلى المدينة، وتوقع فيها الخراب.


بعد أن أتمت سميراميس أعمالها ومنشآتها العمرانية تحولت إلى الفتوح، فدوَّخت البلدان التي جاهرتها بالعصيان، وزحفت في جيش ضخم فأخضعت آسيا وميديا وفارس وأرمينية وفينيقية ومصر وليبية، ثم سارت إلى الهند لمحاربة ملكها منيلة وفتح ورشاقة الجسم ولطف الشمائل، محاسن لم تخلعها الآلهة قبلها إلا على سميراميس، ولم تخلعها على بنت سواها بعدها، وكان مما لا معدى عنه أن يلتقي الولدان كل يوم في الفناء المنبسط أمام دارَيهما، فيتعارفا ويتوادَّا ويلعبا بالألاعيب الصبيانية البريئة، ولم يكن أهلهما ليروا أمرًا غريبًا في اجتماعهما ولعبهما معًا فقديمًا ما كان الصبيان والصبيات يجتمعون ويلعبون، ولا يخشى أهلهم محذورًا بينهم.


مرت الشهور والسنون، فشب بيرام ونهدت تسبا، وتحول ذاك الود الصبياني من نفسه إلى حب فتوي تؤرِّث لواعجه عاطفة الفتوَّة المحتدمة، ويبلوره خيال الشباب اللازوردي الذي لا يقيده عقل، ولا يصقله منطق، وكان هذا الحب يتمكَّن من يوم إلى يوم حتى ملك على الفتيين قواهما وحواسَّهما، فكان الواحد منهما لا يقوى على فراق صاحبه هنيهة، وإذا جنَّهما الليل انصرفا على عناق طويل وقبلة حنون، وانطلق كلٌّ إلى سريره وطيف حبيبه يرف عليه بأجنحة الأماني الوردية.


وبقيا على هذه الحال زمنًا غير يسير، لا يشعر بهما أحد ولا يدري بهما أهلهما، غير أن النميمة إلهة خبيثة، همُّها تهديم الآمال وزرع بذور الآلام، مسخ مخيف يبتدئ صغيرًا هزيلًا يرتجف خوفًا على حياته، ولكنه لا يكاد ينطلق حتى ينمو ويقوى، يسير خفيف الرجل سريع الجناح باثًّا عيونه وألسنته وآذانه الكثيرة في كل مكان، فيتنصت على الأبواب، ويختبئ في الكوى والمنعطفات، لا تنام عيونه ولا تصمت أفواهه، لا في ضياء النهار، ولا في ظلام الليل، حتى تقع عينه على مشهد أو تسمع أذنه خبرًا فيسير به مكبرًا له ناشرًا إياه في كل مكان، هذه الإلهة الخبيثة كانت سبب مأساة بيرام وتسبا، فقد تمثَّلت في فتاة تدعى أورانيا تصاقب دارها الفناء الذي يجتمع فيه العاشقان معتقدين أن لا رقيب عليهما فيه، فيتبادلان نجاوى الهوى ويبتردان بحرِّ القبل، وكانت أورانيا تشاهدهما كل يوم فأكلت قلبها الغيرة، وكيف يكون لتسبا حبيب جميل كبيرام وهي لا تعلوها في ذروة الجمال؟ فطفقت كلما جلست إلى صديقة لها من بنات الحي تخبرها بعشق بيرام وتسبا، وتعظم لها الأمر، فتنقل تلك الخبر إلى غيرها مكبرًا، وهذه إلى أخرى حتى وصل إلى والدَي تسبا وبيرام فجن جنونهما؛ لأن ولدَيهما دنَّسا الأخلاق البابلية، وداسا تقاليد الشعب البابلي التي لا تأذن لشاب أن يجتمع بفتاة إلا بعد أخذها من سوق الزواج، فأسرع الوالدان إلى حيث قيل لهما إن العاشقين يجتمعان، فأدركاهما يتعانقان عناق فراق على أمل من لقاء. أدركاهما يتبادلان قبلة الحب البريء، فتأثَّما وخافا الفضيحة والعار، خافا أن يلعنهما البابليون وتغضب عليهم الآلهة، فالتقاليد عندهم شرائع إلهية، والموت جزاء من يستهين الشرائع الإلهية، فأمسك تسبا والدها من شعرها وجرها إلى داره وهو يلعنها، ودفع بيرامَ والده أمامه وهو يشتمه، وحرَّما على العاشقين أن يجتمعا أو أن يكلم أحدهما الآخر، منعاهما اللقاء والتشاكي، ولكنهما لم يستطيعا أن يمنعاهما التناجي والكلام بالإشارات من بعد. أرادا أن يخمدا نار ذاك الحب فزاداها اشتعالا، فكان العاشقان كلما ضُيِّق عليهما وأُرغما على قمع حبهما وكتم لوعتهما اضطرمت لواعجهما وتأجج لهيب غرامهما.


وكان في الجدار الذي يفصل غرفتَي بيرام وتسبا، شق قديم، منذ بُنِي الجدار، لم ينتبه إليه أحد، ولا يعرفه أحد، فلم تشأ إلهة الحب، وهي إلهة ترأف بعبَّادها وتسهِّل لهم سبل الوصال، لم تشأ هذه الإلهة الحنون أن يظل العاشقان معذبَين ليس لهما إلا التخيُّل والنجوى، فهدتهما إلى هذا الشق، فكانا يجلسان إليه، كل في غرفته، ويتشاكيان آلام قلبيهما ويغمغمان آيات هواهما، يقعد إلى الجدار كلٌّ من جهته، ويتلقى، ملء روحه، أنفاس حبيبه الطيبة على قلبه، ويخاطب الجدار قائلًا له: ما أقسى فؤادك يا جدار! وما أصلب كبدك! أيلذك أن تلبث حاجزًا بيننا؟ وما يضرك لو تركت جسمينا يجتمعان؟ فإن تكن ترى اجتماعنا كثيرًا علينا فاسمح ولا تبخل، بأن نتبادل القبل، ولكن مهما تكن قسوتك علينا، ومهما سددت أذنَيك عن شكوانا، فإننا لا ننكر جميلك علينا، فلولاك لم يستطع كلام أحدنا أن يصل إلى أذنَي صاحبه.


وهكذا كانا يظلان على شكوى وتهامس حتى يدجو الليل ويحين وقت الرقاد، فيودع الحبيب حبيبه بأعذب الألفاظ وأرقِّها ويقبِّلان شق الجدار وينصرفان، ولا يكاد الفجر ينبثق ويطرد ضياؤه نجوم الليل، وترتشف أشعة الشمس قطر الندى عن ثغور الأزهار، حتى يعودا إلى موعدهما.


غير أن هذه الشكاوى المهموسة، والزفرات المصعَّدة خفية في أذن الجدار الصماء، لم تكن لتشفي ما بالعاشقين من آلام، ولا لتخفف من لاعج غرامهما، فاتفقا ذات يوم، وقد أخذ اليأس منهما كل مأخذ، على أن يغافلا أهلهما ليلًا، ويخدعا حراس السور، ويجتازا أبواب المدينة ويفرا إلى ظاهرهما، وتواعدا على اللقاء عند قبر نينوس الملك، لئلا يتيها فيضيع كل منهما حبيبه.


وكان يظلل قبر نينوس زوج سميراميس شجرة توت كبيرة، ثمرها أبيض كفُلَذ الثلج، تنهض على حافة عين باردة الماء، فاتعدا على اللقاء تحتها يستظلان بظلالها عن عيون الليل.


اتفقا على هذه الخطة الجريئة، وافترقا عن قبلة اللقاء لا عن قبلة الوداع، وأي لقاء مفجع سيكون لقاؤهما؟! ولما سكت الليل وغفلت العيون نهضت تسبا من سريرها وقنَّعت رأسها ووجهها بمنديل حريري من نسج بابل، ومشت في خفة تتلمَّس الجدران لتستهدي، تطأ الأرض بحذر خشية أن تقرع قدماها شيئًا ينبه صوته والدَيها، فيشعرا بهمس خطواتها، حتى خرجت من الدار، فتنفست طُمَأنينة، سارت إزاء السور إلى أن بلغت الأبواب، وكانت إلهة الحب قد بعثت إيريس رسولة الإلهات، فهبطت بين الحرَّاس وشغلتهم بغنجها ودلالها، فنسوا الأبواب مفتوحة فانسلت منها تسبا انسلال النور من خصاص النوافذ، ومضت تتعثر بين غدائر الظلام المنسدلة، يَجِبُ قلبها كلما أحسَّت نأمة، أو آنست حسًّا فتتردَّد، فيغوثها الحب، ويمسُّها بصولجانه السحري، فيلهمها الشجاعة فتمضي في سيرها، ولم تصل إلى قبر نينوس حتى أطلَّ عليها القمر من صدر البريَّة، فلجأت إلى ظل التوتة المخيمة عليه، وملأت كفَّيها من زلال العين، فغسلت وجهها وشربت ثم اتكأت على صفائح القبر تنتظر بيرام.


وبينما كانت العذراء البابلية في انتظار حبيبها إذا بها تسمع زئيرًا دوَّت منه البادية وردَّدت صداه الآفاق، فرعبت وأخذتها الرعدة، وقفزت تسير على غير هدى، فانتحت غابة قريبة واستترت مذعورة بين أدغالها، وكانت في نفرتها قد أسقطت منديلها الحريري عن كتفيها، فلم تجرؤ على العودة لأخذه فتركته حيث سقط.


وكان هذا الزئير صوت لبؤة افترست ثورًا، فأخذها العطش فجاءت إلى العين التي تعودت الشرب منها، فولغت في مائها حتى ارتوت، ثم ولَّت قافلة إلى الغابات، فعثرت في مرَّتها بالمنديل فخيِّل إليها أنه عدو عنيد فهرَّت غضبًا، ومزقته بأنيابها وبراثنها ولطخت قطعه بدم الثور الذي كان يلوثها.


لم تتوارَ اللبؤة في الغابات حتى وصل بيرام موافيًا عذراءه إلى الموعد، وكانت تسبا ما برحت مختبئة في الأدغال ترتجف خوفًا من أن ترتدَّ اللبؤة وتكشف مكانها، فرأى بيرام في ضوء القمر آثار وحش مرتسمة على التراب المندَّى، فارتعش واصفرَّ وجهه وخفق قلبه خشية على تسبا من أن تكون الوحوش قد فاجأتها وفتكت بها، ولم يسر إلا خطوات حتى شاهد المنديل الممزق المخضب بالدم، وكان يعرف أنه منديل تسبا، وهل يخفى على المحب شيء من ثياب حبيبه؟ فصك جبهته، وضرب صدره وصاح صيحة اللائع: يا ليل تبًّا لك يا ليل وتعسًا! شهدت مصرع تسبا، وستشهد مصرع محبِّها التاعس، إن تسبا كانت أحق مني بطول الحياة، ولكن ربَّة القدر ربة عمياء تضرب ضربتها على غير هدى، ولا ترى من صرعت، قتلت تسبا في ريِّق صباها، وإِبان تفتِّق أزرار بهاها … لا يا تسبا لم تقتلك ربة القدر، وإنما أنا الذي قتلتك … ألستُ الذي حملك حبُّه الملحُّ النهم على أن تغادري أمنَ بيتك إلى حيث تتساور المفازع والأهوال؟ ولماذا لم آتِ قبلك؟ إذًا لكنت دونك فريسة ذاك الوحش الظلوم، أيتها الأسود الضارية لماذا لا تنقضِّين عليَّ؟ تعالي ومزقي جسمي مِزَقًا مِزَقًا، عاقبيني على جريمتي بتقطيعك أحشائي بأنيابك المسنونة، أيتها الوحوش الخادرة في هذه الغابات الغبياء هلمي إليَّ وافترسيني، فقد حقَّ عليَّ الموت نهشًا وتمزيقًا، غير أني لن أنتظر مجيئك إليَّ لتذيقيني كأس المنون جرعات مرَّة، فالجبان وحده يدعو الموت وينتظر مأتاه، وأنا لست جبانًا.


ثم تناول منديل تسبا، وحمله إلى ظل الشجرة يقبِّله باكيًا حتى بلله بدموعه، هناك انتضى خنجره من قرابه العاجي، وخاطب المنديل قائلًا: تقبَّل يا منديل الحبيب دمي الذي تسفكه يدي حسرة على صاحبتك. وطعن صدره بالخنجر، ثم انتزعه من الجرح ورمى به جانبًا، فنفر دمه سخينًا واندفق على أصول التوتة فنهلته، فتلونت أثمارها البيضاء بلون قرمزي، واستلقى بيرام قرب جذعها يضم المنديل إلى صدره الدامي ويعالج سكرات الموت.


وكانت تسبا قد أمنت عودة اللبؤة، فخرجت من مخبأها، وأسرعت الخطى خائفة أن يكون بيرام قد أتى ولم يرها، فهو ينتظرها وهي لا تريد أن تتأخر عليه، فجعلت تبحث عنه بقلبها وعينَيها، تشتاق أن تراه لتخبره بالخطر الذي واثبها، فانتهت إلى العين فعرفت المكان، ولكنها أنكرت لون أثمار التوتة، تركتها بيضاء فإذا بها تجدها حمراء كالدم، فبهتت وسألت نفسها: أتراها إياها؟ وفيما هي متريِّبة تدير عينيها فعل الحائر، أبصرت على جذع التوتة هيكلًا مرتميًا، فدنت منه متخوِّفة، فوقعت عيناها، ويا لهول ما وقعت عليه! وقعت على جثة بيرام لا تزال نابضة بين الدماء، فطار لبُّها وكمد لونها وارتجفت كالورقة في مهب العاصفة، عرفت جسم من تحبه ومن داست التقاليد من أجل حبه، وخاطرت بروحها في سبيل هواه، فخفقت بكفَّيها الناعمتين ذراعيها البريئتين خفقات مرنَّة، وقطعت شعرها بأناملها الطرية، وارتمت على جسم بيرام الدامي تحتضنه وتقبل جرحه وتمزج دموعها بدمائه، تقبل ذاك الوجه البارد كالجليد وتصيح به: يا بيرام! يا حشاشة كبدي! أي قدر قاس انتزعك مني؟ أجبني يا بيرام! لماذا لا تكلمني؟ أنا تسبا قربك فاسمع صوت قلبي، ارفع رأسك قليلًا وافتح مقلتَيك وانظر إلى آلامي ولوعتي. فاستفاق بيرام على نداء تسبا اللائعة، تلك الاستفاقة التي يسمونها استفاقة المنيَّة، ورنا إليها رنوة ملأى بمعاني الحب والحنان واليأس، ثم أطبق عينيه إطباقة لا انفتاح لهما بعدها، فصرخت تسبا صرخة الثكلى أفقدها المصاب عقلها، وأخذت تقلب جسم بيرام في حركة المجنون، وتحنِّطه بالقبل والدموع، وإذا بها ترى منديلها الممزق المخضب بالدم، وقراب الخنجر الفارغ، فأدركت سر موت حبيبها، وهدأت تخاطبه بحزن واستسلام قائلة: إن يدك يا بيرام هي التي قتلتك حزنًا عليَّ، لتوهُّمك أن اللبؤة قد افترستني! ولكن يدك غير مجرمة في قتلك، وإنما أن المجرمة الوحيدة؛ لأن حبي هو الذي سفك دمك، فإن يكن هذا الحب قوَّى يدك فطعنت صدرك بخنجرك، فأنا لي أيضًا يد قوية وفي قلبي حب يقوِّيني لأمزق بخنجرك أحشائي، وأتبعك إلى ما وراء هذه الحياة. إن الموت وحده كان في قدرته أن ينتزعك مني فأدركك الموت، وسأتحدَّاه وألتحق بك إلى حيث لا تفرِّقنا يد مفرق، فيا أبتِ المنكود الحظ، ويا أيها الوالد التاعس، والد حبيبي، إني أرفع إليكما رجاء عاشقَين جمعهما الحب الأمين في مصير واحد، فارحماهما واجعلاهما يستريحا في قبر واحد، وأنت أيتها التوتة التي شهدت مصرع حبيبي وستشهد مصرعي، فلن تظلل بعد هنيهة إلا جثتَين يلفُّهما الموت معًا بملاءته السوداء، احفظي أثر استشهادنا في الحب، واحملي حتى الأبد أثمارًا سوداء حدادًا علينا، أثمارًا سوداء تشهد بأن العاشقَين المشئومَي الطالع: بيرام وتسبا، قد سقياك دماءهما التي سفكتها يداهما.


قالت هذا وتناولت الخنجر من على الأرض ودم بيرام لا يزال عليه فاترًا، وغرزته بين ثدييها، فسقطت فوق بيرام جثة هامدة.


حمل الإله النسيم رجاء تسبا إلى آذان الآلهة وآذان والدها ووالد بيرام، فرأف بها الآلهة وجمعوا روحها وروح بيرام، روحي شهيدي الحب جمعوهما معًا في فردوسهم، حيث الربيع الأبدي المرصع بالورود والزنابق الطيبة الشميم، هناك في نهار دائم ونور نقي ولذة لا تنقضي يستظلان أشجارًا حمْلها البخور وثمارها تفاح ذهبي، وينهلان من سلسبيل الآلهة تحيط بهما غبطة خالدة وفرح لا يزول، وأحرق والداهما جسمَيهما ووضعا رمادهما في إناء واحد دفناه في قبر مزروعة حوله أزاهير زكية العَرْف جميلة المرأى، ولبست التوتة ثوب حداد أبدي فهي منذ ذلك اليوم لا تثمر إلا أثمارًا سوداء.


اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button

اكتشاف المزيد من موقع المعارف

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading